بالرغم من أن لا أحد يريد الحديث عنه، فإن أحداث 11 سبتمبر ما تزال تؤلم أمريكا. فهذا اليوم الفظيع تسبب بالإصابة بجرح من الذعر العام يُفتح بسهولة من جديد بأدنى استفزاز، ويستمر في استنزاف الولايات المتحدة ، مالا، وحيوات، وعلاقات طيبة حول العالم. في الحقيقة، فإن ردة فعل أمريكا تجاه خوفها، قد جعل الأمريكيين بدوره أقل أمنا،وألهم المزيد من التهديدات و الهجمات.
خلال عقد مر من الزمن، منذ 11/9، غزت الولايات المتحدة واحتلت بلدين مسلمين كبيرين (أفغانستان والعراق)، وحملت جيشا ضخما على اجتثاث ملاذ الإرهابيين في (باكستان)، ونشرت الآلاف من القوات الخاصة في بلدان إسلامية متعددة (اليمن، والصومال، والسودان، الخ)، وقامت بسجن مئات من المسلمين الذين لا ملجأ لهم، وشنت حربا شاملة من الأفكار تورط رجال الدين المسلمين في شجب العنف ، ومن المؤسسات الجديدة لجلب العادات الغربية الى البلدان الإسلامية. ومع ذلك ما يزال الأمريكيون يبدون وهم يشعرون بالحيرة على نحو غريب من السبب الذي قد يكون بعض المسلمين غاضبين من أجله على هذا الوضع.
بالمعنى الضيق، فإن أمريكا اليوم هي أكثر أمانا مما كانت عليه في 11/9.لم يكن هناك أي هجوم آخر على نفس الصعيد. فدفاعات الولايات المتحدة فيما يتعلق بتحكمات الهجرة ، وأمن المطارات، وانتشار المكايد الداخلية المدمرة المحتملة كلها قد تطورت.
ولكن بالمعنى الأوسع، فإن أمريكا أصبحت غير آمنة بشكل خطر. ففي كل شهر، هناك المزيد من الإرهابيين الانتحاريين الذين يحاولون قتل أمريكيين وحلفائهم في أفغانستان، والعراق، ودول إسلامية أخرى أكثر منه في جميع السنوات التي سبقت ال2001 مجتمعة. منذ عام 1980 الى 2003 كان 343هجمة انتحارية حول العالم، وكانت 10% على الأغلب ذات دوافع معادية للأمريكيين. أما في الفترة منذ عام ال2004، كان هناك ما يزيد على 2000 هجمة، ما يزيد على 91% منها كان ضد قوات الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان، والعراق، وبلدان أخرى. نعم، هذه الأهداف هي عبر البحار، وتركز على أهداف عسكرية وديبلوماسية. مع أن الهجمات الانتحارية ما قبل ال 2001 كانت كذلك أيضا. إن من المهم أن نتذكر أن تفجيرات عام ال1995 وال1996 لجنود أمريكيين في العربية السعودية، وتفجيرات ال1998 للسفارات الأمريكية، في كل من كينيا أو تنزانيا، وتفجيرات ال2000 لليو. إس.إس. كول في اليمن كانت النقاط الحاسمة التي أظهرت أن التهديد كان يزداد في الفترة السابقة ل11/9. واليوم فإن أحداثا كهذه تحدث بالعشرات كل شهر. إذن لماذا لا يقوم احد بالربط بينها؟
إن سياسات الولايات المتحدة لم توقف مد موجة التطرف في العالم الإسلامي. ولم يكن السبب نقصا في الجهد، أو نقصا في المؤيدين من كلا الحزبين للسياسات العسكرية العدائية، أو نقصا في التمويل، او نقصا في الوطنية الأصلية . لا، إن هناك شيئا آخر ينشىء عدم التلاؤم ما بين جهود أمريكا ونتائج تلك الجهود. فمنذ ما يقرب من عقد تقريبا، كان الأمريكيون يقومون بشن حرب طويلة ضد الإرهاب دونما نقاش جدي عام حول دوافع الإرهابيين الفعلية للقتل. في أعقاب أحداث 11/9 الفورية، كان هذا شيئا يمكن تفسيره بشكل كامل... فالحاجة إلى تدمير مخيمات القاعدة في أفغانستان كانت أمرا ملحا للغاية لإنتظار تحليلات رصينة للأسباب الجذرية.
لكن، غياب النقاش العام، لم يوقف الحاجة الكبيرة لمعرفة أو، ربما من الأفضل القول، ل"فهم" أحداث هذا اليوم الرهيب. في السنوات التي سبقت 11/9، فإن قلة من الأمريكيين فكرت بعمق بدوافع الإرهاب... إنه موضوع تمت إحالته لفترة طويلة إلى الإعلام، والحكومة، والجامعات. و كانت قلة منها على استعداد لانتظار دراسات جديدة، ومجموعة الوقائع، والتقويم النزيه للأسباب البديلة. ينتج الإرهاب الخوف والغضب، وهذه المشاعر ليست صبورة.
كانت هناك رواية بسيطة متاحة بشكل سريع، وحكمة تقليدية قوية بدأت في إعمال قبضتها. ولأن المختطفين في 11/9 كانوا جميعا مسلمين، كان من السهل إفتراض أن الأصولية الإسلامية كانت القوة المحركة المركزية التي دفعت تسعة عشر مختطفا لقتل أنفسهم بغية قتل الأمريكيين. خلال أسابيع بعد هجمات 11/9 أظهرت استطلاعات عن مواقف الأمريكيين أن هذا الافتراض كان يتجمد بسرعة متحولا إلى حقيقة متينة في العقل العام. وقد تساءل الأمريكيون بشكل فوري، "لماذا يكرهوننا؟" وغالبا كما هو بشكل فوري توصلوا إلى نتيجة أن ذلك إنما هو بسبب "من نكون عليه، لا ما نقوم به". و كما قالها الرئيس جورج دبليو بوش في خطابه الأول إلى الكونغرس بعد هجمات 11/9: " إنهم يكرهون حريتنا في التعبير، وحريتنا في التصويت والاجتماع والاختلاف بعضنا مع بعض. وهكذا تم إطلاق "الحرب على الإرهاب".
لقد قامت رواية الأصولية الإسلامية بما هو أكثر من تفسير السبب في تعرض أمريكا للهجوم وتشجيع الحرب ضد العراق. لقد أشارت كذلك تجاه حل بسيط وضخم. فإذا ما كانت الأصولية الإسلامية هي التي تشكل التهديد وإذا ما كانت جذورها قد نمت من ثقافة العالم العربي، فإن لدى أمريكا بالتالي مهمة واضحة: وهي تحويل مجتمعات العالم العربي... عن طريق المؤسسات السياسية الغربية والعادات الاجتماعية باعتبار ذلك الترياق الأخير لفيروس التطرف الإسلامي.
لقد كان لهذه الرواية تأثير قوي على الموافقة على اجتياح العراق. وتظهر استطلاعات الرأي أنه ولسنوات قبل الإجتياح، اعتقد 90% من الشعب الأمريكي أن صدام حسين كان يخفي أسلحة دمار شامل. ولكن هذا الإعتقاد وحده لم يكن كافيا لدفع أعداد كبيرة لتأييد الحرب. ما تغير فعلا بعد 11/9 كان الخوف من أن المسلمين المعادين للأمريكيين أرادوا قتل الأمريكيين بأي ثمن. لذا فإن أي مخاطرة حول كون متطرفين كهؤلاء سيحصلون على أسلحة دمار شامل بدت فجأة كبيرة جدا. وبالرغم من أن قلة من الأمريكيين كانوا يخشون الإسلام ما قبل 11/9، إلا أنه وبحلول ربيع ال2003، فإن ما يقرب من الغالبية ... 49% أي النصف أو ما يزيد على النصف من ال1,4بليونا من مسلمي العالم كانوا عدائيين للأمريكيين بشكل عميق، وأن جزء مشابها متمما لهم اعتقدوا كذلك أن الإسلام نفسه يحض على العنف. لا عجب إذن من أنه كانت هناك مطالبة ضعيفة من قبل لجان الكونغرس أو الشعب عموما من أجل مراجعة مفصلة للمعلومات الاستخباراتية المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل في العراق ما قبل الاجتياح.
لقد كان هدف تحويل المجتمعات العربية إلى ديمقراطيات غربية حقيقية ذا تأثير قوي على التزامات الولايات المتحدة تجاه أفغانستان والعراق. إذ يتوجب كتابة الدساتير‘ وإجراء الانتخابات؛ وبناء الجيوش القومية؛ وإعادة إنشاء اقتصادات بأكملها. كما أن العوائق التقليدية المقامة ضد النساء ينبغي أن تهدم. و الأكثر أهمية، أن كل هذه التغييرات تتطلب كذلك أمنا داخليا، مما يعني الإحتفاظ بحوالي 150ألف من الجنود الأمريكيين ومن جنود التحالف على الأرض في العراق لسنوات عديدة وزيادة عدد الجنود الأمريكيين والغربيين في أفغانستان كل سنة منذ ال2003 وما بعدها.
بتعبير آخر، فإن تبني هدف تحويل الدول الإسلامية هو ما نشأ عنه استعمار عسكري طويل الأمد للعراق وأفغانستان. نعم، وستسعى الولايات المتحدة على الأغلب وبشكل مؤكد إلى إنشاء نظام مستقر بعد الإطاحة بالأنظمة في هذه البلدان في أي حال. مع ذلك، وفي كلا البلدين، فإن خطط الأمريكيين سرعان ما ذهبت أبعد بكثير من مجرد تغيير الزعماء والأحزاب الحاكمة؛ فقط عن طريق إنشاء ديمقراطيات على الطريقة الغربية في العالم الإسلامي يستطيع الأمريكيون دحر الإرهاب مرة واحدة وللأبد.
هناك مشكلة واحدة فقط: أننا نعلم الآن أن هذه الرواية ليست صحيحة.
وتقدم الأبحاث الجديدة دليلا قويا على أن الإرهاب الانتحاري مثل ذلك الذي حدث في 11/9 هو ذو حساسية خاصة للاحتلال العسكري الخارجي، وليس الأصولية الإسلامية أو أي إيديولوجية مستقلة لهذا الظرف الحاسم. ورغم أن هذا النموذج قد بدأ في الظهور في عقدي الثمانينات والتسعينيات، فإن ثروة من المعلومات الجديدة تقدم صورة قوية.
ما يزيد على نسبة 95% من جميع الهجمات الانتحارية هي رد على الاحتلال الخارجي، وفقا لأبحاث مكثفة قمنا نحن بإدارتها في مشروع جامعة شيكاغو حول الأمن والإرهاب، قمنا بدراسة كل عملية من ال2200 هجمة انتحارية التي حدثت عبر العالم من 1980 إلى الزمن الحاضر. وبينما كانت الولايات المتحدة قد احتلت أفغانستان والعراق، حيث يبلغ تعداد شعبي البلدين معا 60 مليونا، ارتفعت حصيلة الهجمات الانتحارية على مستوى العالم بشكل درامي... من حوالي 300 خلال الفترة بين عامي 1980 – 2003، إلى 1800 في الفترة ما بين 2004- 2009. إضافة إلى ذلك، فإن ما يزيد على 90% من دول العالم كله هي الآن معادية للأمريكيين. إن الغالبية العظمى من الإرهابيين الانتحاريين تنحدر من المنطقة المحلية التي يهددها الجنود الأجانب، وهذا هو السبب في كون 90% من المهاجمين الانتحاريين في أفغانستان هم من الأفغان.
الإسرائيليون لديهم روايتهم الخاصة عن الإرهاب، والتي تضمن أن المتعصبين العرب يسعون إلى تدمير الدولة اليهودية لما هي عليه، لا لما تقوم به. ولكن منذ أن قامت إسرائيل بسحب جيشها من لبنان في أيار من عام ال2000، لم تكن هناك أي عملية هجوم انتحاري لبنانية. على نحو مشابه، منذ أن انسحبت إسرائيل من غزة ومناطق واسعة من الضفة الغربية هبطت نسبة الهجمات الانتحارية الفلسطينية بنسبة تزيد على 90%.
لقد ناقش البعض الصلة السببية ما بين الاحتلال الخارجي و الإرهاب الانتحاري، مشيرين إلى أن بعض عمليات الاحتلال التي قامت بها قوى خارجية لم ينشأ عنها تفجيرات انتحارية... على سبيل المثال، غالبا ما يستشهد النقاد بمثالي اليابان وألمانية ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويقدم بحثنا دليلا وافيا لمواجهة هذه الانتقادات بتحديد العاملين الاثنين اللذين يقرران احتمالية الإرهاب الانتحاري الذي يتم توظيفه ضد قوة الاحتلال.
العامل الأول هو المسافة الاجتماعية ما بين المستعمر والمستعمر، وكلما كانت المسافة الاجتماعية أكبر كلما خشي المستعمر أن يفقد طريقته في الحياة.
أما العامل الثاني فهو سابق للثورة.فالإرهاب الانتحاري هو بشكل نموذجي إستراتيجية الملاذ الأخير، والذي يستخدم غالبا من قبل لاعبين ضعفاء عندما تفشل وسائل المقاومة الغير انتحارية الأخرى. هذا هو السبب في رؤيتنا لحملات الهجوم الانتحاري تتطور في الغالب من إرهابي عادي أو معسكرات عصابات, كما في حالات إسرائيل وفلسطين، والثورة الكردية في تركية، أو ال تي.تي. إي في سري لانكا.
أحد أكثر الموجودات أهمية في بحثنا هي أن الجماعات المحلية المتمكنة بإمكانها أن تقلل الإرهاب الانتحاري. لم يكن نجاح التمرد في العراق نتيجة للسلطة العسكرية الأمريكية المتزايدة على إقليم الأنبار، ولكن تمكين القبائل السنية ، والتي تدعى عموما بصحوة الأنبار، هي التي مكنت العراقيين بالاحتفاظ بأمنهم الخاص. من جهة أخرى‘ فإن انتزاع السلطة من الجماعات المحلية بإمكانه أن يصعد الإرهاب الانتحاري. في أفغانستان بدأت القوات الأمريكية والغربية بممارسة المزيد من السيطرة على مناطق البشتون في البلاد والتي بدأت مبكرا في أوائل ال2006، وقد تصعدت الهجمات الانتحارية بشكل درامي من هذه النقطة وصاعدا.
ويقترح البحث أن المصالح الأمريكية ستتم خدمتها بطريقة أفضل عبر سياسة التوازن في البلدان القاصية. لقد أخذ بعض الباحثين القضية بهذه المقاربة، مجادلين بأن إبقاء الجنود على الأرض في جنوب آسية ضروري لأمن الولايات المتحدة القومي. لقد فشل مؤيدو هذه النظرية في إدراك كيف أن قوات الولايات المتحدة البرية كثيرا ما تتسبب غافلة بإنتاج إرهابيين معادين لأمريكا أكثر من الذين تقتلهم. في عام ال2000، وقبل عمليتي احتلال العراق وأفغانستان، كانت هناك 20 هجمة انتحارية حول العالم، وكانت واحدة منها فقط (تلك التي تم توجهيها ضد ال يو.إس.إس.كول) موجهة ضد الأمريكيين. إن علينا ببساطة أن نواجه حقيقة أنه، بالرغم من حسن نواياها، إلا أن الحرب الحالية على الإرهاب لا تخدم مصالح الولايات المتحدة.
في قدر كبير منها، تعود عظمة الولايات المتحدة إلى كونها تحترم التفاهم والحوار حول الأفكار والمفاهيم المهمة، ولأنها حرة في القيام بتغيير نهجها.
إن القرارات الذكية تتطلب وضع جميع الحقائق أمامنا وأخذ المقاربات الجديدة بعين الاعتبار. الخطوة الأولى هي الاعتراف بأن عمليات الاحتلال في العالم الإسلامي لا تجعل الأمريكيين أكثر أمنا على الإطلاق... في الحقيقة، إنها في قلب المشكلة.
ــــــــــــ
[u]