السؤالإذا كنت أمام موقفين يقول متعارضين يقول احدهما أن المفاهيم الرياضية في أصلهاالأول صادرة عن العقل ويقول ثانيهما أنها صادرة عن التجربة مع العلم أن كليهما صحيحفي سياقه ونسقه وطلب منك الفصل في الأمر لتصل إلى المصدر الحقيقي للمفاهيم الرياضيةفما عساك أن تفعل؟
طرح المشكل
منذ أن كتب أفلاطون على باب أكاديميتهمن لم يكن رياضيا لا يطرق بابنا. والرياضيات تحتل المكانة الأولى بين مختلف العلوموقد ظهرت الرياضيات كعلم منذ القدم لدى اليونانيين.وهي تدرس الكم بنوعيه المتصلوالمنفصل وتعتمد على مجموعة من المفاهيم .وإذا كان لكل شيء أصل .ولكل علم مصدر فماأصل الرياضيات وما مصدر مفاهيمها ؟فهل ترتد كلها إلى العقل الصرف الخالص, أم إلىمدركاتنا الحسية والى ما ينطبع في أذهاننا من صور استخلصناها من العالم الخارجي ؟وبعبارة أخرى هل الرياضيات مستخلصة في أصلها البعيد من العقل أم من التجربة؟
عرض الأطروحة الأولى
أصل المفاهيم الرياضية يعود إلى العقل
يرى العقليون أن أصل المفاهيم الرياضية يعود إلى المبادئ الفطريةالتي ولد الإنسان مزودا بها وهي سابقة عن التجربة لان العقل بطبيعته ,يتوفر علىمبادئ وأفكار فطرية .وكل ما يصدر عن هذا العقل من أحكام وقضايا ومفاهيم ,تعتبر كليةوضرورية ومطلقة وتتميز بالبداهة والوضوح والثبات ومن ابرز دعاة هذا الرأي نجداليوناني أفلاطون الذي يرى أن المفاهيم الرياضية كالخط المستقيم والدائرة .واللانهائي والأكبر والأصغر ......هي مفاهيم أولية نابعة من العقل وموجودة فيهقبليا لان العقل بحسبه كان يحيا في عالم المثل وكان على علم بسائر الحقائق .ومنهاالمعطيات الرياضية التي هي أزلية وثابتة , لكنه لما فارق هذا العالم نسي أفكاره ,وكان عليه أن يتذكرها .وان يدركها بالذهن وحده . ويرى الفيلسوف الفرنسي ديكارت أنالمعاني الرياضية من أشكال وأعداد هي أفكار فطرية أودعها الله فينا منذ البداية ومايلقيه الله فينا من أفكار لا يعتريه الخطأ ولما كان العقل هو اعدل قسمة بين الناسفإنهم يشتركون جميعا في العمليات العقلية حيث يقيمون عليه استنتاجاتهم ويرىالفيلسوف الألماني "كانط" إن الزمان والمكان مفهومان مجردان وليس مشتقين منالإحساسات أو مستمدين من التجربة ,بل هما الدعامة الأولى لكل معرفة حسية
نقد الأطروحة الأولى
لا يمكننا أن نتقبل أن جميع المفاهيمالرياضية هي مفاهيم عقلية لان الكثير من المفاهيم الرياضية لها ما يقابلها في عالمالحس.وتاريخ العلم يدل على أن الرياضيات وقبل أن تصبح علما عقليا ,قطعت مراحل كلهاتجريبية .فالهندسة سبقت الحساب والجبر لأنها اقرب للتجربة
عرض الأطروحة الثانية أصل المفاهيم الرياضية هي التجربة
يرى التجريبيون من أمثال هيوم ولوك وميل أن المفاهيم والمبادئالرياضية مثل جميع معارفنا تنشا من التجربة ولا يمكن التسليم بأفكار فطرية عقليةلان النفس البشرية تولد صفحة بيضاء .فالواقع الحسي أو التجريبي هو المصدر اليقينيللتجربة.وان كل معرفة عقلية هي صدى لادراكاتنا الحسية عن هذا الواقع .وفي هذاالسياق يقولون (لا يوجد شيء في الذهن ما لم يوجد من قبل في التجربة )ويقولون ايضا (ان القضايا الرياضية التي هي من الأفكار المركبة ,ليست سوى مدركات بسيطة هي عبارةعن تعميمات مصدرها التجربة )ويقول دافيد هيوم ( كل ما اعرفه قد استمدته من التجربة) ففكرة الدائرة جاءت من رؤية الإنسان للشمس والقرص جاءت كنتيجة مشاهدة الإنسانللقمر. والاحتمالات جاءت كنتيجة لبعض الألعاب التي كان يمارسها الإنسان الأول .وقداستعان الإنسان عبر التاريخ عند العد بالحصى وبالعيدان وبأصابع اليدين والرجلينوغيرها ,والمفاهيم الرياضية بالنسبة إلى الأطفال والبدائيين .لا تفارق مجال الإدراكالحسي لديهم ,وان ما يوجد في أذهانهم وأذهان غيرهم من معان رياضية ما هي إلا مجردنسخ جزئية للأشياء المعطاة في التجربة الموضوعية.
نقد الأطروحة الثانية
لا يمكننا أن نسلم أن المفاهيمالرياضية هي مفاهيم تجريبية فقط لأننا لا يمكننا أن ننكر الأفكار الفطرية التي يولدالإنسان مزود بها.وإذا كانت المفاهيم الرياضية أصلها حسي محض لاشترك فيها الإنسانمع الحيوان
.التركــــــــــــــــــيب
إن أصل المفاهيم الرياضية يعود إلىالترابط والتلازم الموجود بين التجربة والعقل فلا وجود لعالم مثالي للمعانيالرياضية في غياب العالم الخارجي ولا وجود للأشياء المحسوسة في غياب الوعي الإنساني .والحقيقة أن المعاني الرياضية لم تنشأ دفعة واحدة ,وان فعل التجريد أوجدته عواملحسية وأخرى ذهنية
الخاتمة
إن تعارض القولين لا يؤدي بالضرورةإلى رفعهما لان كلا منهما صحيح في سياقه , ويبقى أصل المفاهيم الرياضية هو ذلكالتداخل والتكامل الموجود بين العقل والتجربة .ولهذا يقول العالم الرياضي السويسريغونزيث (في كل بناء تجريدي ,يوجد راسب حدسي يستحيل محوه وإزالته .وليست هناك معرفةتجريبية خالصة ,ولا معرفة عقلية خالصة.بل كل ما هناك أن أحد الجانبين العقليوالتجريبي قد يطغى على الآخر ,دون أن يلغيه تماما ويقول" هيجل" "كل ما هو عقليواقعي وكل ما هو واقعي عقلي"